الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة تيناريوان: سرديّة الصحراء وإفريقيا التي نراها

نشر في  04 أوت 2017  (07:47)

حاتم التليلي محمودي- تونس

سيخيّل لك وأنت تتابع العرض الموسيقي لـ"تيناريوان"، في مهرجان الحمامات الدولي من دورته الثالثة والخمسين، أنّك لست أنت، وطبعا لن تتاح لك فرصة أبدا كي تفكّر في الجدوى من السؤال عن سرّ غيبتك أو تشظيك، أو عن سرّ حماقاتك التي ارتكبتها أثناء اشتغال العرض، إذ أنت حللت في شخصية أخرى انفلتت منك بمجرد انتهاء الحفل. لقد نجح هذا العرض في استنطاق شيء ما كامن فيك، ولن يكون ذلك الشيء إلا نوعا ما من تراثك أو ثقافتك القديمة الموغلة في القدم التي ترسبت في الأذهان لكن طفى عليها النسيان. وأنت طبعا لم تتمالك نفسك فإذا بك تجد ضالّتك المفقودة دون حتّى أن تدرك أنّها هي.

سرديّة الصحراء

نشير أوّلا، بصفتك أحد الجمهور أو قارئ لهذا المقال، أحد محبّي الجاز والبلوز ومتابع جيّد للموسيقى العالمية، إلى  أنّك الآن تتابع عرضا موسيقيّا هو مثابة الأيقونة، لأن الموسيقى التي يقدّمها خالصة ونقيّة من جلّ شوائب الهجنة الثقافيّة، باعتبار أنّ الأصول الحقيقية لذلك النوع الموسيقي كانت أفريقيّة بامتياز، وأمام حدث كهذا تجد نفسك مرغما على احداث تلك المفارقة الكبيرة بينها وبين الأنماط الموسيقيّة القائمة على الاستثمار الثقافيّ فإذا بها استغلّت التراث الأفريقي وروّجت له عالميّا من منطلق تجاريّ بغيض. تجد نفسك أيضا مرغما على القول بأنّ هذا النمط الموسيقي يخون الحرّية إذا لم يقله صاحبه ومنتجه الحقيقيّ، لذلك أنت الآن تعلن التصاقك بهذا العرض أكثر من أيّ عرض آخر، إذ ليس ثمّة فيه وعلى الاطلاق نوع من خيانة الرّغبة في الانعتاق والتحرّر.

نشير ثانيّا، بصفتك أفريقيّ، على الأقل من حيث الانتساب الجغرافيّ، إلى أنّ "تيناريوان" لا تمثّل مجموعة موسيقيّة فحسب، بل هي فلسفة كاملة وإحدى سرديات صحراء أفريقيا الكبرى، وما لحقها من استعمار وتشويه واستثمار خارجي غذّته عنصريّة الآخر الغربيّ، وما تحمله في تخومها من عذابات وجراحات لحقت بالانسان الأفريقيّ فرمته بالعطش والقيظ والمحن حتّى أنّ حياته صارت نوعا من العراك ضدّ المستحيل، وعليه: أنت في لحظة حضورك هذا العرض يمكنك الانتباه إلى ذلك، وعوض أن تتساءل يورّطك فيه، ذلك أنّك دخلت إلى أغوار سحرهم وطقوسهم وحرارة أغانيهم.

نشير إليك ثالثا، بصفتك تحمل أعباء الهويّة، إلى أنّ هذه المجموعة، لم تفصح عن كلمات أغانيها بلغة واحدة، إذ ثمّة العربيّة الفصحى، وثمّة كلمات من اللسان الفرنسي، وثمّة أيضا لغة الطوارق والرجال الزرق، وهنا عليك أن تتساءل يا صاحبي عن سرّ ذلك، وهذا ضروريّ: لقد مرّت على صحراء أفريقيا ثقافات عديدة، عربية وأمازيغيّة وفرنسية وغربية أيضا، لذلك لم تخرج الأغنيّة من أفواه المغنّين إلا بأصوات هذه الحضارات كما لو أنّها في اطار بحثها عن حرّيتها تبحث عن المشترك بينها علّه ثمّة امكانيّة التعايش، وتبحث عن المختلف كي تدين الآخر المستعمر.

تشغيل العرض

بقدر ما هو عرض موسيقيّ، إلا أنّه توفّر على جلّ مقوّمات الفرجة، الفرجة التي لا تخلو من طابعها الفرجوي، حيث ثمّة الغريب والصادم والمدهش واللامتوقّع، ذلك الذي يخلّص الجمهور من أعباء الزمن الدنيوي، ليدخل به إلى زمن آخر، هو زمن "آخروي"/ ميتافيزيقيّ، لأنّه ثمّة على غرار النمط الموسيقيّ المشفوع بايقاعات مختلفة وعنيفة التي تدفع إلى التخمر والرقص والجذبة، تشغيل للإضاءة وملابس المؤدين المنتسبة إلى أصولهم (الطوارق/الرجال الزرق) وثمّة أيضا نوع من الوحشيّة في أجسادهم من حيث طبيعة رقص بعضهم الغريبة.

كيف يتحرّك جسد المؤدّي/ الراقص الذي رأيناه على ركح العرض؟

تستوحى هذه الرقصة (على عكس كلّ المجموعات الموسيقيّة الغربية التي ادّعت انتسابها إلى الجاز أو البلوز أو غيرها من الموسيقى الأفريقية) من عوالم الصحراء وحدها: حركة اليدين المفتوحتين التي تحيل إلى النسور والصقور الجائعة، التواء الجسد وانحناءه التي تحيل إلى أفعوان الصحراء على الرمال، رفع الأقدام معا أو بشكل يتتالى مثل سفينة الصحراء (الجمل) حيث تسمى تلك الحركة بـ"الوخذ"، أو النزول بالركبتين على الأرض مثل الابل وهذا ما يطلق عليه بتسميّة "النيخ"، التصاق الركبتين بشكل مفاجئ حيث يكون ثمّة انحناء في الظهر والاحالة إلى حركة الفارس على ظهر جواده إلى ما دقّت طبول الحرب بين القبائل، وثبة الجسد إلى الأمام أو إلى الخلف التي تحيل إلى وحوش الصحراء الضارية، تمايل الجسد بشكل بطيء والاحالة على مشية الودّان الصحراويّ.

ثمّة على غرار ذلك الأصوات، فحيح الرّيح بين سعف النخيل، مواويل صحراويّ مبحوح من شدّة القيظ، ابتهالات طارقيّ إلى السماء في صلاة نحو طلب الماء والسيل، صرخة غضب ضدّ التعب واليأس، وثمّة أيضا صوت غضبيّ يحرّض على العصيان والتمرّد.

تلك هي سرديّة الصحراء يا صاحبي، ثمّ هل تنبّهت إلى ذلك المؤدّي الرّاقص؟ يمكنك أن تعود معي إلى روايات الكاتب الليبيّ ابراهيم الكونيّ وستتأكّد أنّ لكلّ قبيلة صحراويّة درويشها، ذلك الذي يعرف أسرارها ويجوب القفار بين العرّافات والشيوخ ويقرأ  تمائم العجائز ويجيد تقفّي الآثار، ولكنّه لا يقول الحقيقة إلا بشكل ملغز، وبشكل يوحي  بغير قليل من الطقوس والتعازيم التي لا يفهمها غيره أو ربما شيخ القبيلة. هو الآن أمامك مع مجموعة "تيناريوان" يستنطق محنة الصحراء عبر جسده.

أفريقيا التي نراها

لم ينجح عرض "تيناريوان" في مهرجان الحمامات الدولي فحسب، بل ونجح أيضا في تشغيل الفرجة، وجعل الجمهور يدخل معه ثنايا المهمّش والمفقود، أدغال أفريقيا المنسيّة، ومن ثمّة وجّه منظوراته ورؤاه إلى مفهوم الحرّية كما يراه الأفريقيّ نفسه، وتلك هي أفريقيا التي نراها.

لننتبه الآن وبشيء من الحذر، إنّ أخطر ما قد يحدث هو أن نشطب الآن العرض من خرائط أذهاننا ونتجه إلى عرض آخر، كما لو أنّنا لو نبحث عن الترفيه الخالص دون تشغيل للأسئلة الملحّة. هذه الأسئلة تدفعنا حتما إلى إعادة البحث والنظر في متن المنجز الثقافي للقارّة السمراء، إذ على الرّغم من كونها تعرّضت إلى السلب والقهر والاستعمار والاستثمار ما تزال تحمل في رحمها الكثير من التعبيرات الأدائية الممسرحة، والأغاني المرعبة، والقصائد الكبرى، ولهذا نحن مدعوون جميعا إلى البحث من جديد حتى يتسنى اكتشاف مخزونها التراثيّ والانسانيّ العظيم، فمن منّا يقرأ اليوم للشاعر "التشاديّ "حسب الله مهدي"  والسودانيّ/الليبي "محمّد الفيتوري" و"كوفي أونور" الذي اغتالته يد الارهاب في غانا و"دينيس بروتوس"والروائيّة "نادين غورديمير"؟ ومن منا يعرف كم ثمّة من لوحة ومنحوتة تمّت سرقتها من جنوب الصحراء الأفريقيّة وهي الآن معروضة في المتاحف العالمية؟